يواجه سوق اللحوم الحمراء في المغرب أزمة هيكلية تبدو بلا نهاية، تثقل كاهل المواطنين وتهدد استدامة القطاع. الأسعار، التي تتراوح بين 90 و100 درهم للكيلوغرام، تصل أحيانًا إلى 120 و140 درهمًا في بعض المناطق، وهو مستوى يصفه المواطنون بـ”المبالغ فيه”. هذا التضخم، الذي يضرب القدرة الشرائية للأسر المغربية، يجد جذوره في عوامل متعددة: سنوات الجفاف المتتالية، انخفاض القطيع الوطني بنسبة 38%، وارتفاع تكاليف أعلاف الماشية بشكل صاروخي. الكسابة الصغار، المتركزون في مناطق مثل الشاوية والغرب والدكالة وعبدة والشرقية والرحامنة، هم الأكثر تضررًا. فقد اضطر الكثيرون إلى تصفية قطعانهم للبقاء على قيد الحياة، بينما قلّص الكسابة المتوسطون قطعانهم إلى النصف لتقليل التكاليف. أما في مناطق البور، فالوضع أكثر مأساوية: “إما أنا أو القطيع”، يقول كساب من منطقة الرحامنة، معبرًا عن عمق الأزمة التي تهدد ليس فقط سبل عيشهم، بل أيضًا الأمن الغذائي للبلاد.
للتصدي لهذه الأزمة، ضاعفت حكومة أخنوش من الإجراءات: إعفاء الواردات من الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة على الماشية واللحوم، دعم الأعلاف، وحتى إلغاء ذبح الأضحية في عيد الأضحى بقرار ملكي. هذا القرار الأخير أدى إلى انخفاض مؤقت في الأسعار (15 إلى 20 درهمًا للكيلوغرام) في الأسواق الطرفية للمدن الكبرى مثل الدار البيضاء، لكن التأثير لم يدم طويلًا. يوضح عبد الرحمن المجدوبي، رئيس الجمعية الوطنية لمربي الأغنام والماعز (ANOC): “إلغاء ذبح الأضحية دفع الكسابة إلى تصفية أغنامهم، التي أصبحت مكلفة جدًا للتسمين – بين 15 و20 درهمًا يوميًا. هذا خلق انتعاشًا قصيرًا في العرض، لكن ندرة الإنتاج عادت لتسيطر بسرعة”. اللحوم الغنمية، التي وصلت إلى 140 درهمًا للكيلوغرام قبل القرار، تستقر اليوم حول 100 درهم، وهو سعر لا يزال بعيدًا عن متناول العديد من الأسر المغربية، خاصة في ظل التضخم العام وتراجع القدرة الشرائية.
تحقيق أجرته جريدة “Le Matin” في شلالات، قرب الدار البيضاء، يكشف عن تفاوت كبير في الأسعار (بين 75 و100 درهم للكيلوغرام) يعكس اختلاف قنوات التزويد. الجزارون مثل عبد الفتاح السعدي، الذين يتزودون مباشرة من الكسابة المقاومين في المناطق المروية، يقدمون أسعارًا معقولة نسبيًا. هؤلاء الكسابة، الذين يزرعون أعلافهم الخاصة مثل الشوفان والشعير والذرة، يصمدون أمام تضخم أسعار الأعلاف بفضل اعتمادهم على الإنتاج الذاتي. لكن هذا النموذج يبقى استثناءً في قطاع تسيطر عليه الفوضى. في الأسواق الأسبوعية، مثل سوق تيط مليل، يهيمن الوسطاء، المعروفون بـ”الشناقة”. هؤلاء يشترون الماشية بأسعار زهيدة من الكسابة، الذين غالبًا ما يفتقرون لمهارات التفاوض، ليعيدوا بيعها بهوامش فاحشة قد تتضاعف في غضون ساعات قليلة. “الوسطاء يستغلون ضعف الكسابة وندرة العرض لرفع الأسعار بشكل غير مبرر”، يشتكي كساب من الشاوية، مضيفًا أن هؤلاء الوسطاء يتربحون على حساب المنتج والمستهلك دون أن يضيفوا أي قيمة حقيقية للسلسلة.
وزير الصناعة والتجارة، رياض مزور، أثار جدلًا واسعًا في فبراير الماضي بتأكيده وجود 18 مضاربًا يقاومون جهود التنظيم في القطاع. تصريح خطير، لكنه لم يتبع بأي تحقيق رسمي، مما يثير تساؤلات حول تقاعس الحكومة ومجلس المنافسة في التعامل مع هذه الادعاءات. “من هم هؤلاء المضاربون؟ وكيف يتحكمون في السوق؟”، يتساءل مواطنون ومهنيون على حد سواء، مطالبين بتحقيق عاجل لكشف الحقيقة. في هذه الأثناء، يعاني الكسابة، أضعف حلقة في السلسلة، من ضائقة مالية خانقة. “نبيع بخسارة، والسعر عند الجزار لا يعكس واقعنا”، يقول كساب صغير من الدكالة، مشيرًا إلى أن ارتفاع تكاليف التسمين، الذي يتأثر بتقلبات أسعار الأعلاف، يجعل من المستحيل تحقيق أي هامش ربح.
المهنيون يطالبون بإصلاح جذري لقنوات التسويق. يقترح المجدوبي تحديث أسواق الماشية من خلال تسعير المواشي حسب الوزن بدلاً من التقدير البصري، وهو ما من شأنه أن يضمن شفافية أكبر في التسعير ويحد من هوامش الوسطاء. كما يدعو إلى إعادة إحياء نموذج التجميع الذي أثبت نجاحه في إطار مخطط المغرب الأخضر، حيث كان يربط المنتجين مباشرة بالمشترين، مما يقلل من دور الوسطاء. “نحتاج إلى ثورة في قنوات التسويق لضمان عدالة التوزيع بين المنتج والمستهلك”، يؤكد المجدوبي، مشددًا على أهمية إشراك المؤسسات العمومية في مراقبة هذه السلسلة.
من جهته، يراهن وزارة الفلاحة على استراتيجية “الجيل الأخضر”، التي تستهدف إعادة تعمير القطيع الوطني وتحديث 120 مجزرة بحلول 2030، بهدف تحسين جودة الإنتاج وضمان شروط صحية أفضل. الأمطار الأخيرة، التي ساهمت في تجديد المراعي في مناطق الشرق والجنوب الشرقي، تبعث على الأمل بتحسن الوضع، لكن الوزارة تؤكد أن هذه التحسينات لن تكون كافية دون إصلاحات هيكلية. “الجفاف المتكرر أثر بشدة على إنتاجية القطيع، مما أدى إلى تراجع العرض وزيادة الأسعار”، تقول الوزارة في بيان سابق، مشيرة إلى أن الطلب المتزايد على اللحوم الحمراء في المغرب يفاقم الضغط على السوق.
على الجانب الاجتماعي، تتسبب هذه الأزمة في تفاقم ظاهرة الهجرة القروية. الكسابة الصغار، الذين يشكلون العمود الفقري للاقتصاد الريفي، يجدون أنفسهم مضطرين للهجرة إلى المدن بحثًا عن فرص أخرى، مما يهدد التوازن الاجتماعي في المناطق الريفية. “لم يعد بإمكاني البقاء هنا، الجفاف والديون أنهكاني”، يقول كساب شاب من منطقة عبدة، مضيفًا أنه يفكر في الانتقال إلى الدار البيضاء للعمل في قطاع البناء. هذا الواقع يدق ناقوس الخطر حول الحاجة إلى تدخل عاجل لدعم هذه الفئة وتثبيتها في أراضيها.
.