تشهد الرباط حدثاً علمياً استثنائياً يضعها في مقدمة الوجهات العالمية للبحث الأكاديمي والفكر السوسيولوجي. انطلاق أشغال المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا يمثل لحظة تاريخية مهمة، حيث تستضيف المنطقة العربية والقارة الإفريقية هذا التجمع العلمي المرموق للمرة الأولى في تاريخه.
هذا الحدث الأكاديمي الكبير، الذي يحظى برعاية الملك محمد السادس نصره الله، يجسد مكانة المغرب المتنامية كمركز للإشعاع الثقافي والعلمي على المستوى الدولي. مشاركة حوالي 5000 باحث من أكثر من 100 دولة تعكس الثقة الدولية في القدرات التنظيمية المغربية والاعتراف بالدور الريادي للمملكة في تعزيز الحوار الأكاديمي العالمي.
جامعة محمد الخامس بالرباط تتولى تنظيم هذا المنتدى الضخم تحت شعار “معرفة العدالة في عصر الأنثروبوسين”، وهو موضوع يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل البشرية وعلاقتها بالبيئة والمجتمع. الشراكة مع الجمعية الدولية لعلم الاجتماع والهيئة المغربية لعلم الاجتماع تؤكد الطابع المؤسسي المتين لهذا التجمع العلمي.
البرنامج الأكاديمي الثري للمنتدى يشمل ما يقارب 1329 جلسة علمية متخصصة، تقودها 67 لجنة بحث ومجموعة موضوعاتية تابعة للجمعية الدولية لعلم الاجتماع. هذا التنوع في المحاور والمواضيع يضمن تغطية شاملة لأبرز القضايا المعاصرة التي تشغل الباحثين والمفكرين حول العالم.
من بين القضايا المحورية التي ستناقشها الجلسات العلمية موضوع “اللامساواة الاجتماعية والبيئية”، الذي يحتل مكانة خاصة في النقاشات الأكاديمية المعاصرة. كما سيركز المنتدى على “دور العلوم الاجتماعية في مواجهة الأزمات العالمية”، وهو موضوع يكتسب أهمية متزايدة في ظل التحديات المتعددة التي تواجه العالم اليوم.
المحور الثالث المهم يتعلق بـ “أصوات الجنوب في النقاشات الدولية”، وهو موضوع يحمل أهمية خاصة للمغرب والقارة الإفريقية، حيث يسعى إلى إبراز الإسهامات الفكرية والعلمية للدول النامية في الحوار الأكاديمي العالمي.
محمد غاشي، رئيس جامعة محمد الخامس بالرباط، أكد في كلمته الافتتاحية أن هذا المنتدى يأتي ليضيف لبنة فكرية جديدة في بناء “المغرب المتوسطي، الإفريقي، الكوني”. هذا التوصيف يعكس الرؤية الاستراتيجية للمملكة المغربية كجسر حضاري يربط بين القارات والثقافات المختلفة.
التأكيد على أن المغرب “يراهن على المعرفة كرافعة للتنمية، وعلى العدالة كشرط للاستقرار، وعلى السوسيولوجيا كوسيلة للفهم والإصلاح” يكشف عن فلسفة تنموية متقدمة تضع البحث العلمي والمعرفة في قلب استراتيجية التقدم الوطني.
غاشي أوضح أن استضافة جامعة محمد الخامس لهذا المنتدى العالمي ليس مجرد محطة تنظيمية، بل تجسيد للرؤية الاستراتيجية للجامعة المغربية كما أرادها الملك محمد السادس، جامعة منفتحة مبادرة وفاعلة في محيطها الوطني والدولي. هذا التوجه يعكس التزام المغرب بتطوير التعليم العالي وجعله أكثر انفتاحاً على التجارب الدولية.
الشرف الكبير للرباط في تحولها لعدة أيام إلى مركز عالمي للنقاش السوسيولوجي العميق يأتي في زمن تزداد فيه الحاجة إلى تفكيك تعقيدات عالمنا المعاصر. هذا التوقيت المدروس يجعل من المنتدى منصة مثالية لفهم ديناميات التغيير وتوجيه مسارات العدالة الاجتماعية والبيئية.
التركيز على عصر “الأنثروبوسين” يطرح تحديات جديدة أمام الباحثين والمفكرين، حيث يتطلب تجاوز البنى الصلبة للنظرية التقليدية وفتح نوافذ جديدة للسوسيولوجيا القادرة على إعادة مساءلة العلاقة بين الإنسان والمجتمع والطبيعة والمعرفة.
جيوفري بلاييرز، رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، ثمن إقامة المنتدى بمدينة الرباط ووصفه بأنه “لحظة حاسمة لإعادة تأكيد الدور الاستراتيجي لعلم الاجتماع في مواجهة الأزمات متعددة الأبعاد التي تجتاح العالم”. هذا التصريح يؤكد الأهمية الاستراتيجية للمنتدى في السياق الدولي الراهن.
تحذير بلاييرز من انتشار الأخبار الكاذبة ومن تراجع الحرية الأكاديمية يسلط الضوء على التحديات المعاصرة التي تواجه البحث العلمي والأكاديمي. التأكيد على أن التدخل النقدي للعلوم الاجتماعية لا يزال ضرورياً لتعزيز العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان يعكس الدور الحيوي لهذه العلوم في المجتمع.
أليسون لوكونتو، رئيسة المنتدى العالمي الخامس لعلم الاجتماع، أشارت إلى أن هذا المنتدى ليس مجرد مساحة للتبادل العلمي، بل دعوة لإعادة التفكير في المعرفة وتقدير الأصوات المهمشة منذ زمن طويل. اختيار الرباط كملتقى للثقافات يضفي على هذه الدورة أهمية رمزية قوية تتجاوز الإطار الأكاديمي البحت.
عبد الفتاح الزين، رئيس اللجنة المحلية لتنظيم المنتدى ومنسق الهيئة المغربية لعلم الاجتماع، أكد أن التغيير الاجتماعي الرصين يتطلب المعرفة والتدبير، وهذه من أهم مميزات الفعل السوسيولوجي. هذا التوجه يؤكد على الدور العملي والتطبيقي لعلم الاجتماع في إحداث التغيير الإيجابي في المجتمعات.
أنشطة المنتدى تقام في عدة فضاءات مرموقة بمدينة الرباط، أبرزها المسرح الوطني محمد الخامس وكلية علوم التربية وكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي والمدرسة المحمدية للمهندسين والمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي. هذا التنوع في الأماكن يعكس الطابع الشامل والمتنوع للمنتدى.
استضافة أول مهرجان للفيلم السوسيولوجي ضمن البرنامج الرسمي للمنتدى تضيف بعداً ثقافياً وفنياً مهماً، حيث تجمع بين الأكاديمي والإبداعي في تناول القضايا الاجتماعية المعاصرة. هذا النهج المبتكر يجعل من المنتدى تجربة ثرية ومتنوعة تتجاوز الحدود التقليدية للمؤتمرات الأكاديمية.