بداية وكما يعلم الجميع فخطاب العرش له ميزة وأبعاد خاصة تميزه نظرا لحجم هذه المناسبة الوطنية التي نعتز بها جميعا ، ولكنه عبارة عن خارطة طريق ترسم معالم ورهانات الدولة الأمة خلال السنة المقبلة ،بالطبع يمزح خطاب العرش لهذه السنة بين مكونين أساسيين هما متكاملين ومندمجين ،الأول هو المتعلق بوضع جلالة الملك محمد السادس حصيلة تقييمية لما تم إنجازه من مكاسب اقتصادية جعلت من المملكة المغربية كما قال جلالة الملك بلدا صاعدا يرتكز على إقتصاد تنافسي باعتبار المغرب موطن وقطب الإستثمارات نظره الثقة التي يحظى بها لدى المنتظم الدولي ، فعلى سبيل المثال لا الحصر عائدات الشركات المغربية بإفريقيا تجاوزت 2.5 مليار دولار ،كما أن الصادرات الصناعية المغربية نحو افريقيا انتقلت من 300 مليون دولار سنة 2014 لتصل حاليا إلى أزيد من ثلاث مليار دولار وفي هذا السياق تحدث جلالة الملك عن الدينامية الإقتصادية الهيكلية التي جعلت من المملكة المغربية قطبا صناعيا انتقلت عبره الصادرات الصناعية للضعف في مجالات المهن العالمية على غرار السيارات والطائرات والطاقات المتجددة بكافة انواعها وكذلك الريادة السياحية قاريا دون نسيان الصناعات الغذائية ، وكل هذه النجاحات لم تأتي صدفة بل جاءت عبر خارطة طريق واضحة المعالم رسمها قائد الدولة الأمة ، لكن مع كل هذا المجهود فهناك عالم قروي وجبلي ينتظر الكثير من كافة القوى الحية ،لذلك قال جلالة الملك حفظه الله بأننا لا يمكننا لا في الحاضر ولا في المستقبل أن نتحدث عن مغرب يسير بسرعتين مختلفتين ،فهناك سرعة كبيرة جدا تشهدها مختلف حواضر المملكة المغربية ،سرعة تضاهي سرعة البراق ،لكن في مقابل ذلك هناك نمو لا يرقى لمستوى التطلعات بالعالم القروي والمناطق الجبلية ،من الرسائل كذلك التي تحدث عن جلالة الملك أهمية التعجيل بإخراج منظومة عامة لانتخابات مجلس النواب حيث وضع جلالة الملك سقفا زمنيا لا يتعدى نهاية هذه السنة ،كما تطرق خطاب العرش إلى كون الانتخابات التشريعية المقبلة ستجرى في وقتها القانوني والدستوري المعتاد ،من أهم النقاط أيضا التي استوقفتني كثيرا في خطاب جلالة الملك هو حكمة قائد الدولة الأمة وتأكيده للمرة الرابعة في خطب ملكية مختلفة على سياسة اليد الممدودة للجارة الشرقية أولا عبر أرضية سياسية واضحة ومسؤولة ،تحمع الأخويين الشقيقين اللذان تجمعهما اللغة والدين والمصير المشترك ،وثانيا عبر دعوة جلالة الملك لإعادة إحياء المغرب الكبير لما له من أهمية اقتصادية واجتماعية بين شعوب المنطقة المغاربية .
هناك تكمن روح خطاب العرش لذلك قلت سابقا بأنه خطاب ملكي سامي بمناسبة عيد مميز ،فالخطاب الملكي قارب بين زاويتين جوهريتين ،الأولى التقدم المكرو- اقتصادي الناجح الذي تعرفه المملكة المغربية بفضل أوراش البنية التحتية الضخمة على غرار خط فائق السرعة الذي سيربط الشمال بالوسط وصولا لمراكش بتكلفة تقدر بستة وتسعين مليار درهم ،دون نسيان معالم النموذج التنموي الجديد التي وضع ملامحها جلالة الملك في شتى المجالات ،والتي جعلت حوالي ثلاثة ملايير يستهلكون المنتجات الوطنية بفضل اتفاقيات التبادل الحر ، مع كل هذه الدينامية الإقتصادية الهيكلية أكد جلالة الملك حفظه الله بأنه لن يكون راضيا إلا إذا وصلت ثمار هذه الدينامية كافة الشرائح المجتمعية من كافة الأقاليم والجهات ،وفي هذا السياق استحضر الخطاب الملكي مفهوم التنمية المجالية المندمجة التي وجب وضعها بمقاربات متجددة تبتعد عن المقاربات الكلاسيكية التقليدية ،لذلك وجب خلق نقلة نوعية تجعل كافة الجهات بحواضرها قراها تسير بسرعة موحدة ، بسرعة تمزج بين التقدم المكرو- اقتصادي والتدخل الإحتماعي والمجالي المباشر الذي يجعل العالم القروي والمناطق الجبلية مثلا تستقطب ثمارا من هذه الدينامية الإقتصادية.
بالتأكيد هي عبارة واضحة و رسالة قوية من طرف جلالة الملك حفظه الله ، رسالة تؤكد من جديد على حرص الملك الحكيم على أن تصل ثمار التنمية المستدامة كافة الأقاليم والجهات بدون استثناء ، رسالة إلى كافة القوى الحية من حكومة وبرلمان ومنتخبين وفاعلين ترابيين ومجتمع مدني على الانخراط كل من موقعه للمساهمة في وضع سياسات عمومية قادرة على إحداث النقلة النوعية في تأهيل المجالات الترابية ، فالبعد الترابي كان حاضرا بقوة في خطاب العرش ،فهو من وجهة نظري القادر على جعل المغرب يسير بسرعة تنموية موحدة ،وبالتالي فالفاعل الترابي معني بالأساس بهذه الرسالة ،خصوصا مع مستجدات الجهوية المتقدمة والصلاحيات والإختصاصات المهمة المقدمة لها سواء كانت اختصاصات ذاتية أو مشتركة مع الدولة كما تنص على ذلك الفصول ،142,143,144 من الدستور ،بل إن هذا الأخير وضع بابا خاصا بالجماعات الترابية بأشكالها الثلاث ،وبوأ مجالس الجهات مكانة الصدارة في التنمية المجالية والإقتصادية والإستثمارية ، دون نسيان القانون التنظيمي رقم 111.14 الذي يعطي للجهات صلاحيات كافية لوضع برامج التنمية الجهوية (PDR) ، على غرار جذب الاستثمارات كإختصاص ذاتي ،وهنا وجب تعزيز صيغة دقيقة لكيفية التلاقح بين مجالس الجهات والبرامج الحكومية في مجال الإستثمار من جهة أولى ،وبين مجالس الجهات والمراكز الجهوية للإستثمار من جهة ثانية ، وبينها وبين القطاع الخاص من جهة ثالثة خصوصا مع قانون الإطار الجديد المتعلق بالميثاق الجديد للإستثمار ،الذي وضع من بين أسسه هدف تنمية منصفة المجال للمساهمة فى العدالة المجالية على مستوى الإستثمارات العمومية والخاصة ،وأن لا ترتكز بأقطاب وحواضر بعينها ،بل يجب أن يكون هناك تمييز إيجابي للجهات التي تصلها الإستثمارات بكيفية لا ترقى لمستوى التطلعات على غرار درعة تافيلالت وخنيفرة بني ملال ،وبالتالي فالفاعل الترابي وجب عليه أن يكون على قدر هذه المسؤولية الحسيمة المتمثلة في وضع سياسات عمومية مجالية من الجيل الجديد ،وفي هذا الخطاب الملكي وضع جلالة الملك محمد السادس نصره الله أربعة ميكانيزمات أساسية وجب أخذها بعين الإعتبار عند بلورة السياسات العمومية المجالية المندمجة ،أولى هذه الميكانيزمات هي استحضار مميزات الخصوصية المحلية ،وثانيها تركيز جلالة الملك على البعد الجهوي كقاطرة تنموية ، أما الميكانيزم الثالث فيتجلى في التضامن بين المجالات الترابية ،وفي هذا الصدد لا بد من التأكيد على أهمية صندوقي التضامن بين الجهات وصندوق التأهيل الإجتماعي المنصوص عليهما دستوريا ،أما البعد الرابع فهو المتعلق بأهمية خلق مقاربة تشاركية بين كافة المتدخلين لتوحيد الأهداف والأولويات .
جلالة الملك حفظه الله ما فتئ يعطي أهمية قصوى للدولة الإجتماعية التي تشهد تمفصلات تنزيلها ،فالملك الحكيم مباشرة بعد توليه عرش أسلافه الميامين ركز على البعد الإجتماعي فأبدع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005 ، وقلبها بسنة أرسى معالم مدونة الأسرة ، دون نسيان ورش الجهوية المتقدمة الذي تشهد ولايته الإنتدابية الثانية ، لنصل اليوم بتعميم الحماية الإجتماعية و الصحية بقانون اطار واضح المعالم لا يتغير بتغير الحكومات ، وبورش الدعم الإجتماعي المباشر ،كما كان للورش الملكي المتعلق بمحاربة الفوارق المجالية دور محوري كبير في فك العزلة الطرقية بعوالم كثيرة والمناطق الجبلية ، هذا هو تصور جلالة القرب من المواطن ، لجلالة الملك خلال هذا الخطاب مزج برؤية إستراتيجية بين العدالة المجالية والتنمية الإقتصادية ، لذلك فحرص جلالة الملك هو أن تحدث نقلة نوعية كبيرة تجعل الفضاء القروي فضاء للإستثمار كذلك ،مجالا مجهزا بالخدمات والمرافق الأساسية ،مجالا لخلق فرض الشغل عبر مشاريع مندمجة ، ما يجعلنا نصل للأهداف الأربعة التي سطرها جلالة الملك ،أولها دعم وخلق فرص الشغل عبر مقاربة الجهوية المتقدمة ،زد على ذلك توفير الخدمات الأساسية خصوصا في مجالي التعليم والصحة ،دون نسيان أهمية التدبير الإستباقي لتثمين الإقتصاد الأزرق في تفاعل مع تحديات الجفاف ،وصولا لخلاصة كل هذه الأهداف ألا وهي تأهيل المجالات الترابية بشكل شمولي ،يحقق التوازن بين الدينامية الإقتصادية الهيكلية والتأثير المجالي المنتظر ، وبالتالي الوصول أو على الأقل الإقتراب من جعل المناطق الجبلية والعالم القروي يسر بسرعة تضاهي أو تقترب من السرعة التي تسير بها حواضر المملكة المغربية ،وهذا هو طموح قائد الدولة الأمة حفظه الله.
ختاما جلالة الملك محمد السادس وضع خارطة طريق واضحة المعالم ودقيقة بأهداف محددة وجب علينا جميعا كقوى حية كل من موقعه التعبئة الشاملة لنصل للمغرب الذي نطمح إليه جميعا ، مغرب يسير اليوم وغدا بسرعة تنموية واحدة .
رضوان جخا محلل سياسي