أصدرت المصالح المركزية لوزارة الداخلية توجيهات صارمة إلى الولاة والعمال، تدعوهم فيها إلى تجميد وإلغاء صفقات عمومية لم تُحترم فيها مقتضيات “الأفضلية الوطنية”، وذلك بعد توصلها بعدد من الشكايات الصادرة عن مقاولات مغربية تم إقصاؤها من طلبات العروض، رغم توفرها على الكفاءات والمؤهلات الضرورية، لصالح منافسين أجانب.
ووفق معلومات كشفتها هسبريس، فإن هذه التوجيهات تأتي في أعقاب تحركات تفتيشية موسعة شملت جهات الدار البيضاء-سطات ومراكش-آسفي، حيث ركزت اللجان المركزية على فحص دفاتر التحملات ووثائق طلبات العروض الخاصة بعشرات الصفقات الجماعية التي أُثير حولها شكوك جدية تتعلق بطرق تمريرها، وطبيعة الجهات المستفيدة منها.
وأكدت مصادر مطلعة تحدثت إلى المصدر نفسه أن الشكايات المقدمة من قبل مقاولات محلية أشارت إلى وجود بنود “تعجيزية” في دفاتر التحملات، تم صياغتها بشكل يبدو وكأنه “على مقاس” شركات معينة، مما سهّل لها هيمنة متكررة على صفقات جماعية عبر سنوات، في مسلسل يُطرح تساؤلات حول الشفافية والنزاهة في تدبير المال العام.
شمل التدقيق، الذي أجرته لجان تفتيش تابعة للداخلية، عدداً من الجماعات القروية والحضرية، حيث كشفت النتائج عن اختلالات إدارية ومالية جوهرية، أدت إلى عزل رؤساء بعض الجماعات بقرارات صادرة عن المحاكم الإدارية، فيما تُتابع أسماء أخرى أمام محاكم “جرائم الأموال” في قضايا تتعلق بتسيير الصفقات.
وأشارت المصادر ذاتها، كما وردت في تقارير نقلتها هسبريس، إلى أن لجان التفتيش وجهت استفسارات مباشرة إلى رؤساء جماعات ومديري المصالح حول الأسباب الحقيقية لاختيار مقاولات بعينها دون غيرها، خصوصاً في مشاريع تهم الربط بشبكة المياه الصالحة للشرب، وإنجاز مسالك قروية، وتجهيز مستوصفات، وإصلاح مدارس.
كما كشف التدقيق في الوثائق أن بعض دفاتر التحملات تضمنت بنوداً غير ضرورية، أو شروطاً تقنية لا تتوافق مع طبيعة المشاريع، ما أعاق مشاركة المقاولات الصغرى والمتوسطة، وفتح المجال أمام عدد محدود من الشركات، التي تكررت أسماؤها بشكل مريب في سجلات الفائزين، ما يعزز الشبهات حول وجود تواطؤ أو تدبير مسبق لنتائج المنافسات.
رغم أن المرسوم المتعلق بالإصلاحات في مجال الصفقات العمومية تضمن بنوداً مهمة لدعم المقاولات الوطنية، مثل تخصيص 20 في المائة من المبلغ التقديري للصفقات لفائدة المقاولات الصغرى والمتوسطة، وتمكين تقسيم الصفقات لتسهيل ولوجها، فإن التطبيق العملي على أرض الواقع يُظهر فجوة كبيرة بين النص القانوني والواقع الميداني.
كما أن المرسوم ينص على منع تضارب المصالح، ويُلزم المتعهدين بتقديم “تصريح بالشرف”، فضلاً عن إلزامية نشر المبلغ التقديري لكل صفقة، لكن هذه الضمانات تبقى، في نظر العديد من الخبراء، هشة إذا لم تُرافق بآليات رقابة فعالة ومحاسبة حقيقية.
تُعد هذه الخطوة من وزارة الداخلية مؤشراً على تصاعد الضغط ضد الممارسات غير الشفافة في تدبير الصفقات الجماعية، لكنها تُطرح في الوقت نفسه تساؤلات حول مدى استمرارية هذه الحملات، وهل ستُترجم إلى إصلاحات هيكلية، أم ستبقى مجرد تدخلات تكتيكية لاحتواء الغضب المقاولاتي.