لقد حملت برقية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي بعثها إلى الملك محمد السادس أبعادًا ودلالات كبيرة، من أبرزها أولًا: تجديد الدولة الأمريكية لموقفها التاريخي من قضية الصحراء المغربية، عبر تأكيد ترامب على أن مقترح الحكم الذاتي هو الأساس السياسي الوحيد لحلحلة هذا النزاع الإقليمي المفتعل، بحيث جدّد ترامب الموقف الأمريكي الواضح. لذلك قلت إنه موقف دولة برمتها بإجماع سياسي أمريكي، جمهوري وديمقراطي، فالولايات المتحدة الأمريكية منذ أبريل من سنة 2007 كانت تؤيد مبادرة الحكم الذاتي المغربي، على غرار ولاية الرئيس باراك أوباما، لكن مع دجنبر من سنة 2020 كان الموقف الأمريكي أكثر وضوحًا وتطورًا وتأثيرًا، عبر المرسوم الرئاسي ذي الأثر القانوني للرئيس دونالد ترامب.
وبعد نهاية ولايته، انطلقت بعض الأصوات، خصوصًا بجوارنا المغاربي، تقول إن الموقف الأمريكي سيتغير مع تولي رئيس من الحزب الديمقراطي. لكن مع بداية ولاية جوزيف بايدن، خاب ظن تلك الأصوات، فالعلاقات المغربية-الأمريكية ازدادت أكثر قوة، حيث شهدت الأقاليم الجنوبية زيارة كبار المسؤولين الأمريكيين، على غرار عمدة أرلينغتون بولاية تكساس، ورئيس مؤتمر عمداء مدن الولايات المتحدة الأمريكية الديمقراطي جيمي روس، مع إبرام اتفاقية توأمة بين أرلينغتون ومدينة العيون، دون نسيان اتفاقية توأمة بين مدينة كولومبوس بولاية أوهايو ومدينة الداخلة، بحضور عمدتها الديمقراطي أرلوند جينثير.
كما شهدت الشراكة العسكرية المغربية-الأمريكية أوج عطائها في ولاية جوزيف بايدن، عبر وصول تمارين الأسد الإفريقي إلى أقصى منطقة المحبس وطانطان بالصحراء المغربية. لذلك قلت إن أهم بعد ودلالة في برقية تهنئة ترامب، هي كونها تؤكد من جديد على وحدة الصف الأمريكي تجاه قضية الصحراء المغربية.
أما البعد الثاني المُستشَفّ من هذه البرقية، فيتجلّى في توقيتها الاستراتيجي المهم جدًا؛ فهي على المستوى الوطني، تزامنت مع احتفالات الأمة المغربية بالذكرى السادسة والعشرين لتربع الملك على العرش، وهي تأكيد على الإلمام الأمريكي الدقيق بالأهمية الاستراتيجية القصوى للصحراء بالنسبة للمغاربة قاطبة، فهي تجسيد لمفهوم البيعة وأواصر التقدير بين الملك وشعبه. فكما قال الملك محمد السادس في خطاب الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، إذ أكد أن الصحراء المغربية هي النظارة والباروميتر الذي يقيس به المغرب صدق ونجاعة الشراكات.
أما على المستوى الإقليمي، فقد جاءت هذه البرقية مع سلسلة اللقاءات التي يقوم بها المستشار الخاص للرئيس الأمريكي المكلف بالشؤون الإفريقية والعربية مسعد بولس للمنطقة. فبرقية ترامب تضع كل المجهودات الأمريكية في سياق واحد يتمثل في مقترح الحكم الذاتي كحل سياسي وحيد، واقعي وذو مصداقية. وهذا ما أكده وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في أبريل المنصرم.
أما على المستوى الدولي، فما جاءت به رسالة الرئيس الأمريكي، هو بمثابة خارطة طريق للمنتظم الدولي، خصوصًا عبر دهاليز الأمم المتحدة، للانتقال إلى المحطة النهائية المفصلية لهذا النزاع الإقليمي المفتعل. لا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة القلم الذي يخط مشاريع قرارات مجلس الأمن الدولي حول الصحراء المغربية، كما أن دولة العم سام لها تأثير جوهري وكبير جدًا في رسم خريطة السياسات الدولية، باعتبارها أقوى قوة عسكرية في العالم. وبالتالي، فالبعد الثاني المهم في هذه البرقية، يأتي في سياق دولي حافل بالثمار الدبلوماسية الكبيرة، وهذا الأمر تطرق إليه الملك محمد السادس في خطاب العرش لهذه السنة، حينما أشاد بالموقفين البريطاني والبرتغالي من قضية الصحراء المغربية.
البعد الثالث الذي يمكن أن نستنتجه من برقية ترامب، يتمثل في التقدير والاحترام الكبيرين اللذين تكنّهما الولايات المتحدة الأمريكية للمغرب وقائده، حيث أكد الرئيس الأمريكي على أهمية مواصلة وتوطيد الشراكة التي وصفها بالقوية والدائمة مع المغرب كحليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، كما تطرق ترامب للدور المحوري للمغرب بقيادة الملك محمد السادس في حفظ الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب، قارّيًا ودوليًا، على غرار تنظيم عاصمة النخيل مراكش أطوار المنتدى العالمي للتحالف الدولي ضد داعش. فالمغرب تجمعه بأمريكا شراكة استراتيجية أمنية تمتد طيلة هذه العشرية، دون نسيان كون المملكة المغربية تستضيف تمارين الأسد الإفريقي التي تنظمها القيادة الإقليمية الأمريكية، ونحن نخلد ذكراها الواحدة والعشرين هذه السنة. حتى الترتيبات الأولية لهذه التمارين العسكرية تتم بالمنطقة العسكرية الجنوبية بأكادير. شراكة استراتيجية-عسكرية يُستقبل عبرها الأسد الإفريقي أزيد من عشرة آلاف عسكري من حوالي عشرين دولة من مختلف قارات العالم.
أما على مستوى الشراكة البرلمانية المغربية-الأمريكية، فقد أعطت جلسة التصويت على السفير الجديد للولايات المتحدة الأمريكية بالمغرب، ريتشارد ديوك بيوكان الثالث، أحد أهم تمظهرات التقدير الكبير الذي يوليه الكونغرس الأمريكي للمملكة المغربية. فمجلس الشيوخ، من خلال غرفته العليا، أبان عبر مجموعة من النواب البرلمانيين، سواء من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، عن تقدير كبير للملك محمد السادس. فالسيناتور الأمريكي الجمهوري جو ويلسون أشاد بحكمة الملك محمد السادس في انفتاحه على المحيط الإقليمي، وسياسة اليد الممدودة التي تنتهجها الدبلوماسية الملكية دائمًا، أما السيناتور الديمقراطي كريس مورفي، فقد أكد أن المغرب بلد رائد قارّيًا، واعتبر أن المغرب وأمريكا شريكان تاريخيان. أما السيناتور الأمريكي بيل هاغرتي، فقد تطرق إلى المملكة المغربية باعتبارها حليفًا تاريخيًا، تتميز بموقعها الجغرافي الذي يجمع بين القارتين الإفريقية والأوروبية والشرق الأوسط. في حين أكدت السيناتورة الديمقراطية جاكي روزن على أهمية توطيد العلاقات الاقتصادية مع المغرب، خصوصًا في مجالات الطاقات المتجددة والأمن السيبراني.
لا ننسى كذلك تصريح السفير السابق للولايات المتحدة الأمريكية بالمغرب، ديفيد فيشر، الذي اعتبر أن المغرب هو حليف متميز لأمريكا بإفريقيا، أما نائب رئيس المجلس الأمريكي للسياسة الخارجية بيرمان، فقد أشاد بدور الملك كقائد يحظى بالاحترام والتقدير. كما أن مجلس النواب الأمريكي قد صادق مؤخرًا على قرار تشريعي من إعداد السيناتور الجمهوري جو ويلسون مع السيناتور الديمقراطي برادلي شنايدر، يحتفل بالعلاقات الثنائية التاريخية بين البلدين، والتي ستكمل خلال دجنبر من سنة 2027 مئتين وخمسين سنة. علاقات ضاربة في جذور التاريخ، فالمملكة المغربية جمعتها اتفاقية ومعاهدة السلام والصداقة منذ يوليوز من سنة 1786، وتمت المصادقة عليها في نفس الشهر من سنة 1787 من طرف الكونغرس الأمريكي.
أما بخصوص البعد الرابع الذي يمكن استنتاجه من برقية ترامب، فهو الحرص الأمريكي على تعزيز الدينامية الاقتصادية بين البلدين. فالمغرب هو الدولة الوحيدة قارّيًا التي تجمعها بالولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية للتبادل الحر منذ يناير 2006، كما أن حجم التجارة الثنائية بين الدولتين انتقل وتضاعف تقريبًا خمس مرات، من 1.3 مليار دولار سنة 2006 ليصل في سنة 2026 إلى 5.5 مليار دولار. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تصدرت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمغرب، عبر استثمار يقدّر بأزيد من 271 مليون دولار، ما نسبته تقريبًا 29% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمغرب خلال تلك السنة. كما تطرقت مجموعة من التقارير الإعلامية بأمريكا إلى قرب إطلاق دونالد ترامب لخطة استثمارية كبيرة جدًا تناهز الخمسة مليارات دولار بالأقاليم الجنوبية للصحراء المغربية، لتنضاف إلى الاستثمار البريطاني الضخم عبر وكالة تمويل الصادرات البريطانية، بحوالي خمس مليارات جنيه إسترليني، ستشمل أقاليم الصحراء المغربية، دون نسيان الاستثمارات الفرنسية والإسبانية والألمانية.
ختامًا، إن برقية الرئيس الأمريكي هي تجسيد للنجاحات الدبلوماسية الاستراتيجية التي حققها المغرب بقيادة الملك الحكيم محمد السادس، ما يمهّد لمحطة تاريخية لحل نهائي لهذا النزاع الإقليمي المفتعل. من يدري، قد تكون الذكرى الخمسون للمسيرة الخضراء أولى بشائر هذا الحسم المغربي.
رؤية تحليلية للمحلل السياسي رضوان جخا